الثلاثاء، 16 سبتمبر 2025

" الاحتجاجات الاجتماعية في فرنسا ": أزمة مالية .. توقعات متداعية.. وتصاعد اليمين المتطرف

باتت المظاهرات والاحتجاجات فى الشارع الفرنسي تُعَرقِل النشاط الاقتصادي، خاصة فى ضوء فى الدين العام المرتفع وضعف النمو، مع تنويهات مراقبين بأن الأزمة تشكل “قنبلة موقوتة” قد تهزّ أوروبا، خصوصًا في ظل تصاعد قوة أقصى اليمين ...





  • منذ عدة سنوات، تتّجه فرنسا نحو تراكم في الدين العام ونمو اقتصادي ضعيف. هذا التزايد في الدين هو معضلة تؤثر على قدرة الدولة على تمويل برامجها، وصنع سياسات طارئة، ودفع الأعباء الاجتماعية دون إثارة غضب الشارع.
  • جنبًا إلى جنب، ترتفع نسبة استياء المواطنين من برامج الحكومة التي تُقترح أو تُنفّذ لتقليص الإنفاق العام أو رفع الضرائب أو تعديل نظام التقاعد والخدمات الاجتماعية.
  • في هذا السياق تظهر الاحتجاجات كطريقة ضغط رئيسية من قبل النقابات، الفئات الشعبية، وأحيانًا من اليمين المتطرف، الذي يستفيد من السخط الشعبي.
  • مراقبون يرون أن فرنسا تُصبح الآن ليست مجرد حالة وطنية، بل قنبلة موقوتة في قلب أوروبا، نظراً للدور الفرنسي في اقتصاد منطقة اليورو وتأثير أي اضطراب كبير عليها.



الأحداث والمظاهر وعلاقاتها الاقتصادية والسياسية

سأعرض الأحداث من الأحدث إلى الأقدم، مع تحليل الأبعاد الاقتصادية والسياسية:




أ. أحدث الاحتجاجات (2025)

1. حركة “Bloquons tout” (لنُعطّل كل شيء) – سبتمبر 2025

  • هذه الحركة ظهرت كرد فعل على موازنة الحكومة المقترحة للعام 2026 والتي تضم **خفضًا في الإنفاق العام بحوالي €43.8 مليار من ميزانية الدولة.
  • في 10 سبتمبر 2025، شهدت فرنسا مظاهرات واسعة، مع حواجز في الطرق، تعطيل للنقل، اشتباكات مع الشرطة، وحرائق في الشوارع.
  • الهدف الأساسي للمحتجين: رفض تدابير التقشف، خصوصًا تخفيض الإنفاق العام، تجميد المعاشات، وخدمات عامة متضرّرة، وإلغاء أيام عطلة وطنية.

2. أثر هذه الاحتجاجات والتوتر السياسي على الاقتصاد

  • الاحتجاجات تؤدّي إلى تجميد استثمارات، تأخير مشاريع، تراجع في ثقة المستهلكين والشركات، ما ينعكس على النشاط الاقتصادي الفعلي.
  • الأسواق المالية تتفاعل سريعًا: رفع الفوائد على السندات الفرنسية، توسّع الفجوة بين الفوائد الفرنسية والألمانية.
  • انحدار التصنيف الائتماني: وكالة Fitch خفّضت تصنيف فرنسا السيادي إلى A+ وهي أدنى مستوى من وكالات كبرى.

3. الدين العام والعجز المالي

  • نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بلغت حوالي 113‑116 % في السنوات الأخيرة.
  • العجز المالي (الميزانية) يتجاوز حدود الاتحاد الأوروبي (3 %) بكثير؛ في التقديرات لعام 2024‑2025 العجز كان حوالي 5.4–6.1 % من الناتج المحلي الإجمالي.
  • الحكومة تقترح موازنات تقشفية، ضرائب جديدة، وإلغاء أيام عطلة بهدف تقليص العجز المالي. لكن هذه الإجراءات تثير مقاومة واسعة من الشارع والنقابات.



ب. الأحداث والتطورات السابقة (2023‑2024)

1. احتجاجات المزارعين 2024

  • منذ يناير 2024، قام المزارعون بقطع الطرقات وتنظيم احتجاجات ضد ارتفاع تكاليف الوقود، انخفاض الأسعار التي يتلقونها، وتقليص دعم الدولة.
  • تأثير على النشاط الإنتاجي في القطاعات الزراعية وبعض المراكز اللوجستية بسبب الحواجز.

2. موجات الإضرابات (Strikes) احتجاجًا على إصلاحات الحكومة والتقشف

  • في أواخر 2024، مع خطة الحكومة لخفض الإنفاق ورفع الضرائب، دعت النقابات في مجالات متعددة (السكك الحديدية، النقل العام، العاملين في المرافق، القطاع العام) إلى إضرابات واسعة.
  • آثار هذه الإضرابات تشمل تعطيل النقل، تعطيل الإنتاج في المصانع، تأخير في الخدمات، وتكلفة اقتصادية محسوسة للشركات والمستهلكين.

3. التشاور بين الخبراء الماليين

  • تقارير من Banque de France تُشير إلى أن الدين المرتفع يُقلّل من هامش المناورة المالي (fiscal space)، مما يجعل فرنسا أقل قدرة على مواجهة صدمات اقتصادية مفاجئة.
  • تقارير اقتصادية تُحذّر من أن تأخيرات الإصلاحات أو السياسات اللا واقعية في الميزانية قد تؤدّي إلى تفاقم الدين بدلاً من معالجته.



ج. تحليل الأبعاد: لماذا تُشكّل الأزمة “قنبلة موقوتة”؟ وكيف يرتبط تصاعد اليمين المتطرف بها؟

  • التأثير الاقتصادي والتراكم: عند ارتفاع الدين فوق 110‑115 % من الناتج المحلي، تصبح تكلفة فوائد الدين العام عبئًا كبيرًا، مما يقلّل من القدرة على الإنفاق في مجالات مثل الصحة والتعليم والبُنى التحتية، ويُركّز الإنفاق عمومًا على خدمة الدين. هذا يعني ضعف الاستثمار والنمو.
  • تآكل الشرعية السياسية: الفئات الشعبية تشعر بأن السياسات الحكومية تميل إلى خنقهم من جهة، وتفضيل elites من جهة أخرى، ما يُثمر شرخًا سياسيًا واجتماعيًا. وجود حكومات ضعيفة (بدون أغلبية واضحة) أو تغييرات متكررة في رئاسة الحكومة يفاقم الشعور بعدم الاستقرار.
  • فراغ الفكر السياسي المعتدل: مع تدهور الثقة في السياسيين التقليديين، يظهر اليمين المتطرف كطرف يستطيع استغلال الاستياء. بعض قيادات اليمين المتطرف تستفيد من السخط الشعبي ضد الضرائب، الهجرة، تكلفة المعيشة، وتعرضها كمدافعين “عن القومية” وحقوق المواطن مقابل ما يُنظر إليه كسياسات إيروبية / ليبرالية ضاغطة.
  • تسريب الأزمات إلى أوروبا: فرنسا لاعب مركزي في الاتحاد الأوروبي، والعملات الأوروبية، والتجارة في المنطقة. أي أزمة مالية أو سياسية كبيرة في فرنسا تؤثر على الثقة في الأسواق الأوروبية، الفوائد على السندات الأوروبية، قد تتسع فروقات العوائد (spreads) بين الدول، وقد تتقدم مخاوف من الاستثمارات وتراجع نشاط التجارة.
  • مخاطر أمنية واجتماعية: الاحتجاجات الكبيرة يمكن أن تتحوّل إلى اضطرابات أوسع، إضرابات عامة، تعطيل خدمات حيوية، وقد يُستغَل هذا الوضع من قبل جماعات متطرفة لتعزيز أجندة “فوضى الدولة” أو الخوف “من الدولة”، مما يزيد الدعم الشعبي لديهم.



د. الأرقام الأساسية (الاقتصادية والسياسية)

البند القيمة التقريبية / الوضع الراهن
نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي حوالي 113‑116 % (2024‑2025)
العجز المالي (نسبة موازنة الدولة) نحو 5.4‑6.1 % من الناتج المحلي في آخر السنوات
حجم التدابير التقشفية المقترحة حوالي €43.8–€44 مليار من خفض الإنفاق، رفع ضرائب، إزالة أيام عطلة وتحجيم الإنفاق الاجتماعي
تكرّر تغيّير الحكومات / رئاسة الوزراء عدة رؤساء وزراء في أقل من عامين، البرلمان مشتّت سياسياً، تغيّرات في السياسات بعد الانتخابات أو الثقة البرلمانية
تأثير العوائد على السندات (bond yields) والفوارق مع ألمانيا


ارتفاع في عوائد السندات الفرنسية، تغلّب المخاطر على عوائد الدول “المُحاذية للخطر” (periphery states)؛ الفارق مع ألمانيا اتسع.


هـ. سيناريوهات ممكنة وتوصيات تحليلية

  1. السيناريو الأكثر احتمالًا

    • استمرار الاحتجاجات والإضرابات، خاصة إذا مضت الحكومة قدماً بخطط تقشفية دون تقديم بدائل واضحة لتعويض الفئات الضعيفة.
    • ضعف النمو قد يستمر أو يتراجع، الاستثمارات تتأخر، ربما انخفاض مؤقت في الوظائف في القطاعات الحساسة (البناء، الضيافة، النقل).
    • تصنيف الائتمان يُفضي إلى مزيد من الخفض، مما يزيد تكلفة الاقتراض، ويُعمّق الضرائب أو الخفض في الإنفاق.
  2. السيناريو الأسوأ

    • تدهور اقتصادي أشد: الركود، بطالة مرتفعة، عجز حكومي أعظم، ربما اضطرار إلى تدخل من مؤسسات الاتحاد الأوروبي لفرض رقابة مالية أشد.
    • تحول سياسي: مكاسب انتخابية كبيرة لليمين المتطرف في انتخابات محلية أو وطنية (الرئاسية 2027) مستفيدًا من السخط، مما قد يؤدي إلى سياسات أكثر شعبوية أو انغلاقًا اقتصاديًا.
  3. التوصيات

    • إعادة صياغة سياسات التقشف لتكون أكثر عدالة: حماية الفئات الضعيفة، ضمان استمرارية الإنفاق على الأُسُس الأساسية (الصحة، التعليم)، مع فرض ضرائب تصاعدية على الأثرياء والشركات الكبيرة.
    • إشراك النقابات والمجتمع المدني في النقاش قبل التنفيذ، لتقليل مفاجآت السياسات والحفاظ على شرعية إصلاحات الميزانية.
    • التركيز على النمو: استثمارات في البُنى التحتية الخضراء، الرقمنة، الطاقة المتجددة، لتوليد فرص عمل جديدة وزيادة الإنتاجية.
    • تنسيق أوروبي أقوى: موازين ديون فرنسا مرتبطة بالاتحاد الأوروبي، لذا التعاون مع بروكسل وباقي الدول الأوروبية ضروري، خاصة في قضايا السندات، الفوائد، ودعم المشاريع التي تعزز التكامل.



الجدير بالذكر أن :

  • فرنسا اليوم على مفترق طرق: أزمة مالية كبيرة، مطالب اجتماعية متصاعدة، تعب من السياسات الحكومية التي يُنظر إليها كإملاء من النخب، واستياء عامّ من ضعف النمو والأعباء.
  • الاحتجاجات ليست مجرد رد فعل لحظي، بل مؤشر على عمق الأزمة: عندما يمتلئ الفعل الشعبي غضبًا تجاه السياسات الاقتصادية، وترتفع الأصوات اليمينية باعتبارها بديلًا، يصبح الوضع قابلًا للانفجار الاجتماعي والسياسي.
  • في ظل صلات فرنسا بالاتحاد الأوروبي ودورها المحوري اقتصاديًا وسياسيًا، فإن ما يحدث فيها ليس شأنًا داخليًا فحسب، بل يحمل تداعيات للقارة كلها، خصوصًا إذا تدهورت الثقة في الدول الكبيرة، وارتفاع كلفة التمويل، وتفشّى التيار الشعبوي واليمين المتطرف.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق